الكاتب: عبد الله ديب \ عيون سورية

 

لقاء التعارف الأول ..

 

لم تكن معرفتي بحافظ الأسد قوية، كنت أشاهده مرة أو مرتين في السنة، يوم صلاة عيد الفطر أو الأضحى، حيث ينقل التلفاز شعائر صلاة العيد بحضور الرئيس، يفتح والدي التلفاز، يلعن حافظ ويبصق عليه ويغلق التلفاز، يرفع سماعة الهاتف الأرضي ليتصل بجدتي في الضيعة، ويبارك لها في العيد، بعبارات مقتضبة وواضحة لا تقبل التأويل، فهاتف بيت جدي مراقب منذ غادر والدي وعمي البلاد في الثمانينيات. 

 

هلك الطاغية !

 

جاء العيد الأكبر قبل 23 عامًا حين زفت لنا الأخبار وفاة حافظ الأسد، وفي المبنى الذي أعيش فيه عدد من العوائل السورية، حرصنا جميعًا أن نتأكد أن خبر وفاة حافظ الأسد وصلهم جميعًا، يومها لم يكن هناك «واتساب» لتداول الأخبار، كان دق الباب ونقل الخبر شفاهيًا والدعوة لفتح التلفاز فورًا هو أفضل وسيلة لنقل الخبر والتأكد من أن الرسالة وصلت. 

 

كنّا نعيش لحظة فرح صافية، هلك الطاغية، وكفى، الآن وقت الشكر والحمد، والنقاش بشأن الحلوان مساءً، مبرومة بالفستق الحلبي أم حلاوة الجبن أم كنافة نابلسية؟ والأهم حاليًا الإسراع في تحضير الغداء للاستعداد للذهاب للمسجد لأداء صلاة العصر، هناك اجتماع بدون دعوة ولا ترتيب، وبالتأكيد سيحرص الجميع على الحضور لتلقي التهنئة والتبريكات

 

لا يصلين أحد العصر إلا في «المسجد»

 

خزانة الأحذية الخارجية أمام المسجد تغص بـ «الشواريخ» الحمويّة، وهذا يدل أن المسجد ممتلئ بالسوريين، ومن غيرهم يرتدي هذا الحذاء الأنيق في الأردن؟ بالفعل المسجد ممتلئ، وما أن سلّم الإمام، حتى اجتمع السوريون على بعضهم ضاحكين مستبشرين، يسلمون ويتبادلون التهنئة، ويسألون الله أن تكون هذه بداية الفرج عليهم وعلى سوريا، وبادلهم التهنئة أيضًا إخوة أردنيون وفلسطينيون، كان كره حافظ الأسد متجذرًا في قلوبهم.

 

رحل حافظ وبقي «الشاروخ» 

 

«الشاروخ»، حذاء مكشوف له إصبع في المقدمة لإبهام القدم، ونعله سميك يصنع الأصلي منه من جلد الجمل أو البقر السميك، لكنه استبدل بالمطاط، وأما وجهه فيصنع من جلد رقيق، يزين بخيوط من القصب الملون أو من الجلد نفسه، ويتفنن صنّاعه في تصميم هذا الجزء العلوي. 

 

أما في الغربة، فهو أعمق من ذلك، هو أساسًا جزء من اللباس التراثي الحموي الذي حضر معهم إلى المهجر، وانتقل من كونه تراثًا خاصًا بالحمويّة إلى تراث لكل السوريين، وفيما أذكر أن رجلًا من إدلب اسمه «أبو حسن» كان مختصًا في تفصيلها، ومقصدًا للسوريين من كبار السن الراغبين بتفصيله، أو من الشباب الذين اعتقدوا أنهم كبروا ويحق لهم تفصيل «الشاروخ» وارتدائه.

 

ويوم كنّا صغارًا في المهجر، كنّا نعرف إن كان في المسجد سوريين، من «الشواريخ» في خارجه، بل وكنّا نفرح لذلك، فغالبًا سنرى «عمو» نعرفه، وربما يكون معه أولاده، وستكتمل الفرحة لو كانوا قادمين لزيارتنا، أما «شواريخ» المقيمين في الحي معروفة، فالأسود المطعم بالفضي لأبي محمد، والبني المزين بالقصب لأبي حسين، وهكذا. 

 

مساءً اجتمع الوالد ورفاقه في حديقة بيتنا، وبدأت أسئلة الكبار المعقدة: ماذا بعد؟ هل حان وقت العودة؟ هل سيخرج المعتقلون؟ ماذا سيحصل في سورية؟ ومن سيمسك بالحكم؟ واتفق الجميع على التفاؤل بقادم الأيام، ولا زلت أذكر مداخلة أكبر الحاضرين سنًا وهو مهندس من أريحا، حيث قال إنه «متفائل منذ سقوط الاتحاد السوفييتي»، لم أفهم كثيرًا مما قيل، المهم أن أحاديثهم السياسيّة لم تفلح في إفساد متعتي بتناول حلاوة الجبن، والفرح لفرح والدي ورفاقه.

 

اليوم بعد 23 عامًا، ما تزال صناعة «الشاروخ» مزدهرة في حماة وفي بقية المناطق السورية، ولا يزال السوريون يرتدونه صيفًا، ويحرص صنّاعه على تعليم الحرفة لأبنائهم من بعدهم. أما حافظ الأسد فمنذ عام 2011 لعنت روحه في كل المدن السورية، وهدمت كثيرٌ من تماثيله التذكارية، وفي مدينة الرقة تبوّل رجل مسن على رأس حافظ الأسد، وفي إدلب وضع حذاء في فمه، وفي حماة وضع رأس التمثال في مكب النفايات، واستخدم السوريون «الشاروخ» في غالب مظاهراتهم لضرب صور حافظ الأسد وأبناءه والدعس عليهم، وهكذا ذهب حافظ الأسد جفاءً ومكث «الشاروخ» ينفع الناس في الأرض. 

Please rate this

By sham

اترك تعليقاً