خاص – عيون سورية – المحامي بهاء الدين باره
(قالت محكمة العدل الدولية يوم الاثنين إن هولندا وكندا طلبتا مقاضاة سوريا أمامها بدعوى ارتكابها جرائم تعذيب. وأضافت المحكمة في بيان أن الدولتين قالتا في طلبهما “سوريا ارتكبت انتهاكات لا حصر لها للقانون الدولي بدءا من 2011 على أقل تقدير”، وطلبتا اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية المعرضين لخطر التعذيب).
من بيان المحكمة يبدو أن الدعوى المقامة على الدولة السورية تستند على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب التي صادقت عليها دمشق في 2004.
وتقضي الاتفاقية على أنه يجب على الدول اتباع المسار الدبلوماسي التفاوضي لمعالجة الخروقات التي تستهدف بنود الاتفاقية ومعالجتها قبل الوصول إلى محكمة العدل الدولية طبقا للمادة /20/ وما بعدها من الاتفاقية .
وكانت هولندا بدأت بالمسار التفاوضي عام 2020 وانضمت إليها كندا في عام 2021 وعلى ما يبدو أن المسار التفاوضي قد وصل إلى طريق مسدود بين هولندا وكندا من جهة وبين الدولة السورية من جهة أخرى لمعالجة مطالبات هذه الدول، مما أدى إلى إحالة القضية إلى محكمة العدل الدولية طبقًا لنص المادة /30/1/ من نصوص اتفاقية مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة.
من حيث المبدأ فإن تأسيس الدعوى على هذا الأساس هي حركة ذكية للفكر القانوني الذي أسس لها، للوصول إلى طرح الجرائم التي يرتكبها النظام السوري بحق شعبه في أروقة المحاكم الدولية دون تدخل من قوى عالمية لتثبيط قواعد القانون الدولي وقوانينه، وخاصة أن روسيا أعاقت عدة محاولات في مجلس الأمن الدولي لإحالة قضية تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، التي تحاسب الأفراد على ارتكاب جرائم حرب.
وبالتالي فإن الفكر القانوني الذي أسس لهذه الدعوى قد تخلص من القيود التي تحول من نشر وبحث جرائم النظام في المحاكم الدولية، والتي كانت تستخدمه كل من روسيا والصين لتعطيل قواعد القانون الدولي، وهي خطوة ذكية ومهمة بنفس الوقت ولو أن القضايا المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية تأخذ وقتًا طويلًا من ناحية، ولو أن عقد اختصاص محكمة العدل الدولية للنظر بهذه القضية ليس مأمون النتائج أيضًا، والأيام القادمة سنعرف قرارها بشأن اختصاص المحكمة الدولية للنظر بهذه الدعوى.
وحتى لا نسير بخطى السبق الصحفي والاندفاع الإعلامي وتختلط الأمور، يتوجب علينا كرجال قانون التركيز على النقاط التالية:
أولًا: الإشادة بالجهود المبذولة لفكرة الدعوى والحركة الذكية لتأسيس الدعوى والحيثيات القانونية التي قامت عليها لطرح الجرائم أمام أروقة المحاكم الدولية بغض النظر عن النتائج.
ثانيًا: لا بدَّ من الإشارة إلى أن محكمة العدل الدولية تحاكم الدول، ولا تحاكم الأشخاص، وبالتالي فإن الدعوى مقامة على الدولة السورية، وليس على أشخاص بعينهم.
ثالثًا: تعتبر هذه الدعوى سابقة قضائية دولية كأول دعوى يتم تأسيسها على هذا النحو وهو تطور مهم في الفكر القانوني الدولي، لإعطاء محكمة العدل الدولية بسط صلاحياتها فيما يتعلق بالجرائم ضد الانسانية وحقوق الانسان.
رابعًا: تعتبر هذه القضية امتحان حقيقي لأعضاء محكمة العدل الدولية لتوسيع صلاحياتها أو الركون إلى قوقعتها ضمن نطاقها، وهذا ما سنشهده بعد أيام عند البت باختصاصها وصلاحيتها للنظر بهذه الدعوى من عدمه.
خاتمة
لا يسعني القول إلا أن الشعوب فقدت ثقتها بالتنظيم الدولي الموجود حاليًا، نتيجة الأحداث التي واكبت التجاوزات القانونية وخرقت قواعد القانون الدولي والمبادئ التي تحمي البشرية، بما فيها الممارسات التي يغلب عليها تسلط القوة واللعب بقضايا وحقوق الشعوب، مما أدى إلى انتشار الجرائم ضد الإنسانية والجرائم الدولية التي تهدد البشرية جمعاء كاستعمال الأسلحة الكيميائية، وانتشار شبكات تهريب المخدرات العابرة للحدود والقارات على أوسع نطاق، لعدم وجود ضوابط وإرادة رادعة للقضاء على منظمات الإجرام والمجرمين الدوليين حكومات وأفراد، مما جعل خرق القانون الدولي وانتشار الجريمة أمرًا مباحًا من منطلق المصالح وهيمنة الطرف الأقوى وسيطرة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن على مراكز القرار، مما شل مركز القرار الدولي وجعله عديم الفائدة وفرض الهيمنة على قراراته وأفسح المجال لانتشار الجريمة الدولية على أوسع نطاق.
لكن هذا لا يعني التقليل نهائيًا من الجهود الفكريّة التي تبذلها العقول النيرة لرجال القانون التي تحاول أن تخلق من بعض القواعد الأخلاقية منهجًا تستطيع من خلاله إحراج الدول ووضع السياسيين في مواجهة التحديات الأخلاقية لمنطق العالم الحر، وأن الخطوة المتخذة في هذه الدعوة رؤية قانونية جديرة بالاحترام، وهي رافد للفكر القانوني لتحريك مياه أحكام القانون الدولي الراكدة، بغض النظر عن النتائج.